“ليبانون ديبايت” – ملاك عقيل
لا توحي بورصة التكليف والتأليف بالخروج قريبًا من نفقِ المؤشرات السلبيّة التي تُكَرِّس حالة الهلع من الآتي.
الخيطُ الرفيع الذي لا يزال يربط بين المشهد السياسي وذاك الأمني كفيلٌ بإبقاءِ حالة التوتر والتصادم حتى الآن تحت السيطرة، لكن الأخطر، أن لا ضمانات جدّية لا لدى السلطة ولا عند كبارِ الأجهزة الامنيّة بأنّ صلاحية ضبطِ الارضِ، تحت سقفِ المعالجة غير المسؤولة والركيكة للأزمة، ستبقى مؤمَّنة الى ما شاءت تطوّرات السياسة!
عمليًا، لم تعكس الجولة غير المسبوقة التي قامَ بها قائد الجيش العماد جوزاف عون قبل أيام الى الرئيسَيْن نبيه بري وسعد الحريري وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والتي سبقها لقاءات لم تنقطِع بين قائد الجيش ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، سوى خطورة المأزق الذي وضعت السلطة نفسها فيه يوم كابَرَت على قربِ انفجارِ الاحتقانِ الشعبي من دون الركون الى إجراءاتٍ استثنائيّةٍ وحكيمةٍ تُواكِب الغليان الشعبي.
سَمِعَ قائد الجيش خلال لقائه مع رياض سلامة سلسلة تطمينات عن الوضعِ المالي والنقدي سبق له أن كرَّرَها على مسامعِ اللبنانيين، فيما الوقائع أظهَرَت عكس ذلك.
وبتأكيد مطَّلعين، شكَّلت هذه الجولة العلنيّة جرس إنذار تكمُن أهميته أنه صدرَ عن رأسِ المؤسّسةِ العسكريّة التي أخَذَت على عاتقها لملمة وحصر أضرار البركان الشعبي المُنفَجِر.
إذ بدلَ أن يكون الجيش قوّة الاسنادِ والمؤازرةِ للقوى الأمنيّة، حضر تقريبًا في الواجهة في مناطقِ التماسِ الساخنةِ كلّها الأمر الذي دَفَعَ جوزاف عون الى المُجاهرةِ، “بأنّ مهامَ ردعِ المتظاهرين مش مهمتنا ومش مجهزين ومش مدرَّبين من أجلها”، فيما “لزَّمَت” بيروت وفق الخطة الأمنيّة لقوى مكافحةِ الشغبِ، وبرغم ذلك، لم يغِب الجيش عن مسرحِ الاحداثِ وآخرها ليل الرينغ السّاخن ومواجهة الشياح – عين الرمانة.
دفعةٌ واحدةٌ وقَعَت الكارثة. عجزٌ سياسيٌّ عن مواكبةِ “إعصارِ” الشارعِ. استنزافٌ للقوى الأمنيّة والعسكريّة على مدى أكثر من شهرٍ ونصف. تدهور الوضع المالي والنقدي بشكلٍ مخيفٍ، مع إجراءاتٍ مصرفيّةٍ قاسية، وعودة زمنِ الطوابيرِ أمام محطات المحروقات، والأفران ربما “على الطريقِ”… وفي المدى القريب تخوّف من عدم إقرار موازنة توفّر الاعتمادات اللازمة لاستمرارية عمل القوى الأمنيّة والعسكريّة على الارضِ وصولًا الى تأمين وجبةِ الطعامِ للعسكري المحجوز بنسبة 80%…!
أمام أزمةٍ خطرةٍ من هذا النوع كل شيءٍ واردٌ. التبعات الاقسى ستكون على الجيشِ والقوى الأمنيّة خطُ الدفاعِ الاخيرِ عن البلدِ والخيطُ السميك الفاصل عن احتمال الدخول في نفقِ الفوضى.
داخل الجيش ما يُشبِه حالة استنفارٍ، وبالتأكيد، خوف الشارعِ من الانهيار المالي هو نفسه لدى العسكر، وربما أصعب أمام التقهقر المُخيف في سعر صرف الليرة.
التطمينات الصادرة من جانب وزارة المال، تتحدَّث عن رواتبٍ مؤمَّنة حتى نهايةِ العام. لكن أيّ راتبٍ وقيمته أمام الدولار تراجعت الى النصف تقريبًا، وما الضمانة لتأمين هذه الرواتب مع بدايةِ العامِ الجديدِ؟
وفق المعلومات، بات الجيش الذي خرَجَ لتوّهِ من أزمةِ تأمين المازوت له بعد تأخّرِ أشهرٍ عدّة في توقيع البريد الاداري ما دفعه الى استنفادِ الاحتياطِ، أمام واقعٍ غير مريحٍ حيث يمكن أن تكون المؤشرات ليست ببعيدةٍ عمّا يعانيه القطاع المدني من المستشفيات ولناحية النقص في التغذية والاجهزة الطبية والطبابة والادوية المُهَدَّدة بالفقدان وعدم تلبية الحاجات الملحة.
ولأول مرة في تاريخها، تقف القوى الامنية والعسكرية أمام احتمال عدم توافر الرواتب في وقت الاستحقاق في ظل اطلاق وزير المال تحذير بشأن ضرورة تأمين المال اللازم لدفع الرواتب في القطاع العام نتيجة وضع الخزينة بعد تدني الواردات بنسبةٍ كبيرةٍ، فيما لا تقلّ معاناة الجيش مع التجّار بسبب الفارق بين الدولار والليرة عن تلك التي تواجه القطاعات “المدنية” الاخرى.
واحتمال فقدان التغطية المالية للحاجات البديهية، يترافق مع واقعٍ صعبٍ عايشه الجيش للمرة الاولى بهذا الحجم في ظل ارتفاعِ المتاريسِ على مستوَيَيْن: بين المتظاهرين والقوى الأمنيّة، ومن خلال المتاريسِ الطائفيّة في الازقّةِ والشوارعِ التي أعادت الى الاذهان مشاهد الحرب الاهلية.
واقعٌ مريرٌ دفعَ الجيش مُرغَمًا أحيانًا الى لعبِ دورِ جدار الفصل بين هذه المجموعات المحقونة سياسيًا وطائفيًا ومذهبيًا، كما اعتمدَ استراتيجيّات مغايرة بحسب متطلباتِ الارضِ:
الاستيعاب، أو الصدّ، واحيانًا متفرّج ثم متقدّم لاستعادة السيطرة، وفي بعض الاحيان حاسم من دون مهادنة حين كادَ قطع الطرقات أن يؤدي الى حصول صداماتٍ مباشرة بين المواطنين لامست عتبة الصدام الدامي.
ولعلَّ الاصعب على الجيشِ حملة التهشيم التي تعرَّض لها وللمفارقة ممّن يُحسَبون من أهل البيتِ.
حصل هذا الأمرُ على خلفيّة تعاطيه مثلًا مع مسألةِ فتحِ الطرقاتِ بحيث وصلَ الى حدِّ اتهام مخابرات الجيش بالتواطؤ مع “قاطعي الطرق”، واستخدام وسائل اعلام محسوبة حتى على العهدِ للهجومِ على الجيش في أوج أزمةٍ عاشتها البلاد وفي ذروة حاجته للدعم والمساندة لا التخوين والمعاتبة.
أتى ذلك، في ظل صمتِ الجيشِ واحتضان رئيس الجمهورية المُستَمِرّ للعماد عون مع تفهّمٍ كبيرٍ للثنائي الشيعي، تحديدًا حزب الله، لأداءِ الجيشِ و”المخابرات” على الارضِ، وإن مع بعضِ الملاحظاتِ التي لا تحجب واقع الاطمئنان من جانبِ هذا الثنائي لأداءِ الجيشِ وتشدّده في محاولةِ منعِ “سقوطِ الدم”.