تدخل مشفى باحثًا فيها عن مصدرٍ للشفاء. توهم نفسك أنّها المكان الأسلم لتسلم. وعندما تظن أنك ستخرج معافى مما أنت فيه، تتفاجأ بعوارض أخرى زادت “طينتك بلّة”. لتكتشف أنّك قد أصبت بإحدى “جراثيم المستشفيات” أو ما يسمّى بعدوى المشافي.
هادي الوزواز (23 عامًا) أحد ضحايا هذه العدوى، الذين عانوا لسنوات طوال نتيجة إصابتهم بجرثومة التقطوها في إحدى المستشفيات خلال فترة علاجهم إلى أن وافتهم مناياهم.
بغصّة وألم يحكي مهدي الوزواز شقيق الفقيد قصة صراع أخيه مع المرض. “فمنذ أكثر من ستة أعوام وهادي يعاني من جرثومة التقطها في إحدى المستشفيات أدّت إلى إصابته بتقرحات والتهابات في مصرانه”. ويتابع “رغم أساليب العلاج الذي اتبعها الفقيد لفترة طويلة، لم يتجاوب جسده، ما اضطره إلى استئصال المصران كاملا”. “المعاناة لم تنته هنا” يقول مهدي، “بل زادت بعد العملية بسبب مضاعفات الأخيرة، ما أجبره للدخول مجدداً إلى المشفى.” يصمت قليلاً ثم يختم بصوت مرتجف “تأزمت حالته مع انتشار الالتهابات في جسده النحيل ما آل إلى وفاته مؤخرا”.
هادي، واحد من ضحايا كثر توقفت أحلامهم عند مرض اكتسبوه “لا عالبال ولا عالخاطر” فدفعوا دون ذنب، ثمن استهتار بعض المستشفيات اللبنانية.
ربى محمد (32 عاما) ضحية أخرى لتلك العدوى القاتلة، إلاّ أنها نجت بلطف إلهي من الموت. لم تتوقع ربى أن تكون ولادتها بهذه الصعوبة فعدا عن ألم الولادة، عانت من جرثومة التقطتها خلال العملية القيصرية، جعلت حياتها على المحك.
تحكي ربى عن معاناتها التي دامت نحو شهر ونيف، وأدت إلى عزلها في غرفة في مشفى آخر توجهت إليه بعد الحادثة. “ظننته ألما طبيعيا ما بعد الولادة الا أن ازدياده يوما بعد آخر جعلني أتساءل عن سببه”. تضيف”الفحص الطبي أظهر إصابتي بجرثومة (MRSA) التي التقطها في غرفة العمليات”. هذه الجرثومة، حسب ما ذكرت ربى أوشكت أن تقضي على قلبها ورئتيها، إلا أن الأطباء تداركوا الأمر قبل فوات الأوان. ربى التي لم تكتمل فرحتها في استقبال ابنتها الجديدة، تفضل أن لا تلم أحدا على ما حل بها. وبعبارة “هيك نصيبي” تختصر كل معاناتها. تختم ربى كلامها متمنية على المستشفيات أن تكون أكثر تعقيما كي لا تفقد ثقة زوارها.
ماهية العدوى
تُعرّف عدوى المستشفيات (Nosocomial Infection) على أنها نوع من الالتهابات التي يتعرّض لها المريض بعد دخوله إلى المستشفى والتي تتسبّب بها بكتيريا أو جرثومة تعيش خصيصًا في غرف العمليات والعناية الفائقة. وتنتقل الى المريض في أجهزة التنفّس، أو في “الميل” الذي يدخل جسمه، أو حتى عبر أجهزة تكييف الهواء. وتقدر نسبة احتمال إصابة المرضى الذي يدخلون المستشفيات في الدول المتقدمة من 5-10% من كافة حالات الدخول إلى المستشفيات والمؤسسات الصحية، وترتفع هذه النسبة في الدول النامية إلى نحو 10- 20%. وتعدّ العنقوديات الذهبية المقاومة للمثسلين MRSA، العنقوديات الذهبية المقاومة للفانكوميسينVRSA ، الزائفة الزنجارية Pseudomonas aeruginosa، أمعائيات مقاومة للكاربابينيم، المكورات المعوية المقاومة للفانكوميسينVRE من أهمّ الجراثيم المسببة لعدوى المستشفيات. هذه القائمة لازالت في حالة ازدياد وتعقيد خصوصا مع ما نشهده من انتشار لسلالات مقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية المتوفرة (Pan resistant strains) ما يجعل علاجها أمراً صعباً للغاية.
كيفية انتقال هذه الجراثيم
تنتقل مسببات عدوى المستشفيات بطرق شتى نابعة من بيئة المشفى أو حتى عن اجراءات علاجية. ويعد كلا من الهواء، الماء، الغذاء، الحشرات، المرضى أنفسهم، الطواقم الطبية، الزوار، عمال النظافة، الاسطح والأدوات والأجهزة الطبية وغير الطبية من المصادر التي تنتقل عبرها. ومن أكثر أنواع العدوى الجرثومية التي تصيب المرضى أثناء وجودهم في المستشفيات هي: عدوى الجهاز البولي والجهاز التنفسي وتسمم الدم وعدوى جروح العمليات وغيرها من الالتهابات، ويمكن القول بأن أكثر من ثلث هذه الحالات يمكن تجنبه باتباع التدابير الصحيحة.
في هذا الإطار، يشدد دكتور الأمراض الجرثومية بيار أبي حنا في حديث لموقع “العهد الاخباري” على أهمية غسل اليدين كونهما الوسيلة الأكثر خطراً لانتقال الجراثيم دون انتباه. “فاحتكاك الجسم الطبي مثلا بالمريض دون غسل أيديهم قبل الفحص وبعده ومن ثم الانتقال لمريض آخر يشكل إحدى الطرق التي تنشر العدوى”. ويشير أبي حنا إلى ضعف ثقافة المواطن اللبناني وإداركه لأهمية النظافة وتغسيل اليدين خصوصا داخل المستشفيات، ما يستلزم وجود وعي أكبر عند اللبنانين. ويتابع “المعدات غير المنظفة هي أيضا من أسباب انتقال العدوى، إضافة لعدم تعقيم المستلزمات المستخدمة خلال العمليات الجراحية”.
تدابير استشفائية
تقييم المستشفيات من قبل وزارة الصحة، جبر الأولى، وفق أبي حنا، على إقامة قسم لمكافحة العدوى، إضافة إلى تعيين لجان خاصة تهتم بموضوعها، وترصد المشاكل التي تحصل داخل المستشفيات متَّبعة تدابير وقائية. “هذه اللجنة عليها أن تعمل بشكل جدّي وفعّال لأن الأساس هو الحفاظ على صحة المريض” يقول أبي حنّا. ويكمل “في عدّة بلدان يحصل فيها حالات من العدوى داخل المستشفيات، تقوم الدولة بإعفاء المريض والجهات الضامنة من دفع جزء من الفاتورة”. ويتابع “أنا لا أدعو لذلك، لكنني بالحد الأدنى أدعو لتحمل المسؤولية واتخاذ الموضوع بشكل جدي.”
وفي مقاربة له عن تدابير تتخذها المستشفيات لمواجهة هذه المشكلة، يحكي نقيب المستشفيات الخاصة المهندس سليمان هارون “لـ”العهد” عن دور هذه اللجان المتخصصة في مكافحة العدوى ومنع انتشارها. تعمل هذه اللجنة بحسب هارون وفق آلية بروتوكولات. “فتقوم بمراقبة العاملين والأطباء داخل المشفى، مراقبة أقنية التهوئة والمياه، كيفية تعقيم وتنظيف غرف العمليات والتوليد، وكيفية تعقيم المستلزمات والمعدات الطبية التي يتم استعمالها.” ويضيف “هناك شخص مسؤول لمتابعة هذه الأمور أيضا، في حال هناك عدوى يتم دراسة الوضع منذ دخول المريض الى المشفى إلى لحظة التقاطه الجرثومة. لمعرفة الأسباب الكامنة وراء ذلك، ومواجهة العدوى بالأساليب المناسبة تجنبًا لازدياد الضرر.”
ويشير نقيب المستشفيات إلى استحالة التخلص نهائيا من المشكلة. “فلا يمكن الحصول على نسبة 0% لانتقال العدوى في المستشفيات، بل يجدر بنا أن نتقبل أن هناك نسبة طبيعية من المرضى المعرضين لالتقاط الجراثيم والباكتيريا غير المرئية.” ويتابع “فالنسبة العالمية للمرضى الذين يلتقطون الجراثيم داخل المستشفيات تقدر بـ 5% وليس بالضروري أن تكون هذه النسبة لحالات صعبة تؤول إلى الضرر أو الوفاة، بل قد تؤدي فقط للمكوث في المشفى لمدة أطول لإعطاء المريض المضادات الحيوية لمعالجته.” الـ 5% هذه بحسب هارون ترتفع في العناية الفائقة لتصل إلى نحو 15-20%، ويرجح هارون زيادة هذه النسبة هناك، إلى تواجد الجراثيم أكثر بسبب استعمال التنفس الاصطناعي، ووجود أغلب الحالات من المتقدمين في السن والذين يتلقون العلاج الكيميائي. “هؤلاء مناعتهم المتدنية تجعلهم معرضين أكثر للضرر حتى الوفاة من غيرهم من المتوسطين في السن.”
إذن هناك تدابير تتحكم بها المشافي من تعقيم وغيرها، إلا أن عادات الناس عند زيارة المريض تلعب دورا آخر أيضا في انتقال العدوى. “وهذا ما لا يمكن السيطرة عليه، مع صعوبة منع تقبيل المريض أو تحديد الهدايا التي يدخلها زوار المرضى أو منع بعض أنواعها كالزهور وغيرها.”
الرابط بين العدوى وتلوث البيئة اللبنانية
عليه، لا بدّ لنا أن نتساءل في جو من التلوث الذي يشهده لبنان بفعل انتشار النفايات والمواد المسرطنة، عن وجود رابط بين هذا التلوث والعدوى التي تحصل في المشافي. وهنا يجيبنا الأستاذ سليمان معتبراً أن لا رابط مباشر بين الاثنين. وهو ما يوافقه عليه الدكتور بيار. إلاّ أن هارون يعتبر أن “من السذاجة الاعتقاد أن هذا التدهور البيئي لا يؤثر في صحة الانسان وتكاثر الباكتيريا في المستشفيات”، يتابع “من المؤكد وجود أثر طبيعي يؤدي إلى زيادة انتقال الباكتيريا وتكاثر الجراثيم داخل المستشفيات، في حين أنّ المرضى يعيشون هذا التلوث، فينقلون جراثيم إضافية عند دخولهم المشفى.”