بقلم : الكاتب حسين المولى
بلغ أهل الكوفة امتناع الإمام الحسين (ع) عن بيعة يزيد، فكتبوا إليه الكثير من الكتب، يستعجلونه للقدوم ليبايعوه بالخلافة عوضاً عن يزيد بن معاوية.
فأرسل الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل إلى أهل العراق ليكشف له الامر، وقد سمع أهلها بقدومه ، فجاؤوه ، وبايعوا الحسين وحلفوا له لينصروه بأنفسهم وأموالهم ، واجتمع على بيعته من أهل الكوفة أثنا عشر ألفاً ثم بلغوا ثمانية عشر ألفاً . فكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين يخبره بأن أهل الكوفة قد بايعوه وطلب منه أن يعجل في القدوم ، فتجهز الإمام من مكة قاصداً إلى الكوفة.
وكان قد شدد عبيد الله بن زياد (والي البصرة) على أهل الكوفة وطارد أصحاب مسلم بن عقيل حتى بقي وحده ووقع أخيراً في قبضته فأمر بقتله وقطع رأسه.
علم الحسين بمقتل ابن عمه مسلم وهو في طريقه إلى الكوفة ، فجمع أنصاره ومن أنضم إليه في طريقه من العرب فخطب فيهم وأبلغهم بما جرى لمسلم وقال لهم: لقد خذلنا أنصارنا فمن أحب منكم أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام . فتفرقوا يمنياً وشمالاً ولم يبق معه (ع) إلا أهله واصحابه المخلصون الذين جاؤوا معه من المدينة ونفر يسير ممن أنضموا إليه في الطريق.
تلك الخيانة الأولى في تاريخ العرب بعد الإسلام بإعتبار أن ما جرى في معركة صفين كان دهاء المتحاور ، وكرت سبحة الخيانات في بلاطات وقصور الخلفاء على مرِّ التاريخ الإسلامي يحكي التاريخ عنها وبوجهات نظر مختلفة، لن نتكلم عنها يكفي أن نعرف أن الخيانات قد بددت حكمهم المتوارث سواء أتت الخيانة من العرب أنفسهم أو بتحريض من الفرس.
ونصل في الحديث الى التاريخ الذي يهمنا لنؤرخ بعض من خيانات العرب منذ الحرب الأولى حتى اليوم، نبدأها مع الشريف حسين. فمن المفارقات أنّ الشريف حسين بن علي «الهاشمي»، الذي سار في ركاب الجيوش البريطانية الغازية للمشرق العربي وهو يرفع «راية العروبة» كنقيض لراية آل عثمان، الذين دوماً قبّل الشريف الهاشمي أيديهم، قبْلَ أن يعضّها في نهاية المطاف، هم من أحسنوا للرجل ولأسرته، وهم الذين رفعوا شأنه، حيث كانت أسَر «الهاشميين» في الأستانة تتكون من مجموعة من الفروع التي تتنافس فيما بينها، وتتآمر ضدّ بعضها وكان السبب الرئيسي في صراعات «الهاشميين» هو التكالب على منصب سياسي ــ ديني جرى العُرف الإسلامي، منذ زهاء 800 عام أن يُسند إلى واحد من أفراد ذرية النبي.
وكان السلطان العثماني هو الذي يختار بنفسه من «الهاشميين» من يراه جديراً بأن يكون “شريف مكة”، فيرسله والياً عثمانياً على بلاد الحجاز، ويشرف على «خدمة الحرمين الشريفين»، ويرعى مواسم الحج، ويبعث غلتها من الذهب إلى الباب العالي كل عام. فكان من الطبيعي أن يسعى «الشريف» حسين بن علي، هو الآخر، إلى تجريب حظه، لعله يفوز بالمنصب البرّاق الذي يعهد به السلطان إلى أحد المحظوظين من أفراد أسرته الكبيرة.
لكنّ الحظ لم يعاند «الشريف» حسين بن علي طويلاً، فابتسم له في نهاية المطاف، حينما تعطّف عليه السلطان عبد الحميد، فعيّنه في 1 تشرين الثاني 1908، والياً على مكة المكرمة. واندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914 وكانت اتصالات الشريف حسين بالإنكليز قد بدأت قبل قيام الثورة عندما اجتمع الأمير عبد الله بن الحسين باللورد كيتشنر، المفوض السامي في القاهرة، خلال شهر شباط 1914، حيث اتفق على استمرار الاتصالات بين الطرفين.
تتابعت المفاوضات على شكل مراسلات بين الشريف حسين وبين المعتمد البريطاني في القاهرة، هنري مكماهون. ومن خلال المراسلات المتبادلة (1916-1917) تعهدت بريطانيا بالاعتراف بالاستقلال العربي وتأييده، لكنها في نفس الوقت أبدت بعض التحفظات المخادعة التي ستساعدها لاحقاً على التملص والتهرب من التزاماتها مع العرب، وذلك بغية تحقيق مصالحها في المنطقة العربية الطامعة في توسيع مناطق سيطرتها وإضعاف الدولة العثمانية تمهيداً للحرب العالمية الأولى (1914-1918).
إتضح فيما بعد أن كل هذه التعهدات كانت تغطية خدائع واتفاقات سرية، فقد كانت لبريطانيا مخططات مع فرنسا لاقتسام وغزو الأراضي العربية لضمّها إلى الممتلكات الاستعمارية عن طريق اتفاقية سايكس بيكو التي حددت أرض فلسطين كذلك ولاية يهودية تحت الحماية البريطانية ، لم يكن العرب متطلعين حينها على الاتفاقية شبه السرية بين بريطانيا وفرنسا وبضغط صهيوني.
كان ذلك كله في نفس الوقت الذي التزمت به بريطانيا بالاعتراف بالمملكة العربية التي تضم المناطق العربية الممتدة من الحجاز والعراق إلى الأردن وسوريا, ودعمها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
ومن المعروف أن الأتراك حاولوا جذب الشريف حسين بعد افتضاح الاتفاقيات السرية بين بريطانيا وفرنسا، إلا أنه استمر في التعاون مع بريطانيا والحلفاء الذين كانوا يمولون جيشه من الخزينة المصرية، ويزودونه بالسلاح والخبراء مثل لورانس العرب.
أعلن ثورته وقد تمكنت من طرد القوات التركية من الحجاز، ومن مناطق في شرق الأردن، وساعدت المجهود الحربي البريطاني عسكرياً وسياسياً في المشرق العربي.
إقترب العرب من إقامة الدولة العربية الموحدة في الجزيرة والمشرق، إلا أن بريطانيا كانت قد بدات بتنفيذ مخططاتها في التجزئة والاحتلال والإلحاق، فقسمت البلاد إلى 3 مناطق عسكرية: جنوبية وتشمل فلسطين تحت الإدارة البريطانية، وشرقية تمتد من العقبة جنوباً حتى حلب شمالاً تحت إدارة فيصل، وغربية تضم المنطقة الساحلية من سوريا ولبنان؛ من صور جنوباً إلى كليكيا شمالاً تحت الإدارة الفرنسية.
وأتبع ذلك بالغزو العسكري الفرنسي وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين (وشرق الأردن) والعراق، كما فرض الاحتلال الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان.
وبذلك خان البريطانيين من خان الذين ولوّه، والمفارقة أيضا أنهم لم ينصروه عندما هاجمه آل سعود وانتصروا عليه فتخلى عن العرش، وانتقل من مكة إلى جدة سنة 1343 هـ ـ 1924م، فركب البحر إلى البتراء وكانت ولاية ابنه عبد الله.
وأقام عدة أشهر ثم أخبره ابنه بأن البريطانيين يرون أن بقاءه في العقبة قد يعرضه لهجمات ابن سعود. ثم وصلت إلى مينائها مدرَّعة بريطانية، فركبها وهو ساخط إلى جزيرة قبرص سنة 1925 م ، وأقام فيها ست سنين ، ثم مرض فعاد إلى عمان بصحبة ولديه فيصل وعبد الله ، وبقي فيها حتى توفى ودفن في القدس .
وسنتابع سلسلة خيانات عربية وقد تطول السلسلة كثيراً ، فقد قال تشرشل يوما : ” إذا مات العرب ماتت الخيانة” .
ودائماً سنختمها ب “إلاّ من رحم ربي ” .