جو بينسكر – ترجمة أحمد شافعي –
بعد إشباع الحاجات الأساسية للمرء، تبقى ثلاثة أشياء تشير إليها الأدبيات الأكاديمية بوصفها مكونات للسعادة: توافر علاقات اجتماعية ذات معنى، والإجادة في أي شيء ينفق المرء يومه في عمله، والتمتع بحرية اتخاذ قرارات الحياة بصورة مستقلة.
لكن أبحاث السعادة تخلص أيضا إلى شيء أقل وضوحا، وهو أن كون المرء أفضل تعليما، أو أكثر ثراء، أو أشد تحققا لا تضمن كثيرا التنبؤ بأن شخصا ما سوف يكون سعيدا. بل هي في واقع الأمر تعني أن احتمال شعور ذلك الشخص بالرضا في حياته أقل. هذه النتيجة هي اللغز الذي يحاول «راج راجوناثان»- أستاذ التسويق بمدرسة أوستنز مكومبس للاقتصاد في جامعة تكساس- حله في كتابه الحديث «لو أنك شديد الذكاء، فلماذا لست سعيدا؟». تندرج كتابة راجوناثان في فئة المساعدة الذاتية (بكل ما فيها من كلام حماسي ووصفات لتحقيق التقدم) ولكن التزامه بالبحث العلمي هو الذي ينجو به مما تقع فيه هذه الفئة من الكتابات.
• من فرضيات كتابك أن الناس قد يستشعرون ما سيجعلهم سعداء، ولكنهم يتعاملون مع هذه الأشياء عبر طرق لا تعظم السعادة. هل يمكن أن تضرب مثلا على هذا السخط؟
إذا نظرت إلى مثال الاحتياج إلى الإجادة ـ الاحتياج إلى الكفاءة ـ لوجدت أن هناك منهجين عريضين يمكن أن يعمل من خلالهما المرء ليجيد شيئا ما إجادة كبيرة. أحد النهجين هو أن ينخرط في ما يسميه الناس بالمقارنات الاجتماعية. أي أن تكون الأفضل في القيم بشيء ما: «أريد أن أكون أفضل أستاذ على الإطلاق» أو شيء من هذا القبيل.
وفي ذلك مشكلات كثيرة، ولكن من بينها مشكلة كبيرة هي أنها أمر يصعب كثيرا تقييمه. فما معايير الحكم على شخص في بعد معيّن؟ ما معايير الأستاذ الأفضل؟ أهو البحث، أم التعليم؟ وحتى لو قصرت القياس على التعليم، فهل تكون المعايير هي التقييمات التي تنالها من الطلبة، أم المحتوى الذي تقدمه في الفصل، أم عدد الطلبة الذين يجتازون الاختبار أم الأداء الجيد في امتحان؟ هكذا يصعب الحكم، لأن المعايير تزداد التباسا كلما ازداد المجال ضيقا أو أو ازدادت طبيعته تقنية.
فالذي يحدث بصفة عامة هو أن الناس يميلون إلى الانجذاب نحو المعايير الأقل التباسا ـ وإن لم تكن شديدة الاتصال بالأمر. فيحكم الناس على أفضل الأساتذة من خلال عدد الجوائز التي يحصل عليها، أو الراتب الذي يتلقاه، أو نوع الكلية التي يعمل فيها، وهي أشياء قد تبدو على السطح معايير جيدة للحكم على مدى أفضلية شخص ما، ولكنها في الوقت نفسه ليست وثيقة الصلة بالمجال المعين.
وهذه معايير نتكيف معها بسرعة شديدة، فلو حصلت على زيادة ضخمة في راتبك هذا الشهر، فقد تسعد لشهر، أو اثنين، أو ربما ستة، ولكنك سوف تعتاد الأمر بعد ذلك، وسوف تكون بعدها في حاجة إلى قفزة أخرى، وستظل بحاجة إلى المزيد من ذلك للحفاظ على مستويات سعادتك، وبوسعك أن ترى لدى أغلب الناس أن هذا ليس مصدرا للسعادة يمكن الحفاظ عليه.
• وما المنهج الآخر؟
ما أوصي به هو منهج بديل، وهو أن تصبح أكثر وعيا بما تجيده بالفعل، وما تستمتع بالقيام به، حينما لا تكون بحاجة إلى مقارنة نفسك بغيرك، تنجذب إلى ما تستمتع غريزيا بعمله، وما تجيده، ولو ركزت على ذلك فقط لوقت طويل، فالفرصة سانحة لك كي تحقق تقدما نحو الإجادة، والشهرة والقوة والمال ويأتيك كل شيء كمنتج ثانوي، بدلا من أن تسعى إليه مباشرة بمحاولتك التفوق على غيرك.
لو رجعت إلى الأشياء الثلاثة التي يحتاج إليها الناس- أعني الإجادة والانتماء والاستقلال- فإنني أضيف إليها شيئا رابعا، بعد إشباع الضرورات الأساسية. إنه الموقف أو رؤية العالم التي يتبناها المرء في حياته. ومن الممكن تحديد هذه الرؤية- تبسيطا للأمر- من خلال طريقة أو اثنتين. إحداهما هي نهج ذهنية الندرة التي أرى بموجبها أن ربحي يتحقق على حساب خسارة غيري، فيفضي بك ذلك إلى المقارنات الاجتماعية. والأخرى هي ما أسميه نهج الوفرة، الذي يرى أن هناك متسعا للجميع.
• من الأشياء المثيرة للغاية في كتابك ذلك الخط الذي ترسمه بين الوفرة والندرة، لأن ذلك يذهب بي فورا إلى الاقتصاد: والاقتصاد من نواح كثيرة هو دراسة الأشياء النادرة. هل يمكن أن تكلمنا عن العمليات الذهنية التي تحدث حينما يفكر الناس في ضوء الندرة؟
لا أسعى في كتابي إلى القول بأن ذهنية الندرة ضحلة أو لا نفع فيها من أي نوع. فلو أنك حبيس منطقة حرب أو منطقة فقر، لو أنك تقاتل من أجل البقاء، لو أنك في رياضة تنافسية مثل الملاكمة، فإن لذهنية الندرة هنا دورا شديد الأهمية.
أغلبنا أبناء ناس تمكنوا من البقاء عبر زمن طويل للغاية، في معرض تطورنا كسلالة، وفي كون قائم على الندرة، الطعام كان نادرا، والموارد كانت نادرة، والأرض الخصبة كانت نادرة، إلى آخر ذلك كله، فنشأ في أنفسنا نزوع بالغ القوة إلى التفكير بمنطق الندرة. لكنني أعتقد أن ما جرى بمرور الوقت هو أننا لم نعد مضطرين إلى القتال حرفيا ويوما بعد يوم من أجل بقائنا.
أعتقد أننا، ككائنات ذكية، بحاجة إلى إدراك بعض الآثار المترسبة من نزعاتنا التطورية التي قد تأخذنا إلى الوراء، فلو أنني في وكالة إعلانية على سبيل المثال أو شركة تصميم برامج كمبيوتر، فهذه من المجالات التي تبيّن كثيرٌ من الدراسات الآن أنك تحسن الأداء فيها إذا لم تضع نفسك تحت ذهنية الندرة، إذا لم تشغل نفسك بالمنتج واستمتعت بعملية القيام بما تقوم به، بدلا من تحقيق الهدف.
• بما أننا محصورون في التفكير بمنطق الندرة، فإنني مهتم للغاية بما يمكن القيام به لدفع شخص إلى ذهنية أخرى، من التجارب التي تكلمت عنها في الكتاب تجربة انتهت إلى أن العمال الذي تلقوا رسالة إلكترونية يومية لتذكيرهم باتخاذ قرارات تعظّم السعادة صاروا بوضوح أكثر سعادة ممن لم يتلقوا الرسالة الإلكترونية. هل الأمر فعلا بهذه البساطة؟
من ناحية، نحن أكثر تركيزا على السلبيات، ولكننا في الوقت نفسه نسعى جميعا إلى إحساس السعادة والرغبة في الازدهار والوصول إلى أفضل ما يمكننا الوصول إليه. في النهاية، ما نحتاج إليه لكي نكون سعداء هو في مستوى معين أمر شديد البساطة، كل ما يقتضيه هو أن تقوم بشيء ترى أن له معنى، ويمكنك أن تنسى نفسك فيه بشكل يومي.
حينما تنظر إلى الأطفال، تجدهم شديدي البراعة في هذا، فلا ترى المعايير غير المهمة تشتتهم، هم يتجهون مباشرة إلى الأشياء التي تحقق لهم قدرا من المتعة. أتكلم في كتابي عن مرة أحضرنا فيها لابني سيارة ميكانيكية حينما كان في الثالثة من العمر، بعدما رآها لدى جار لنا. ظل لثلاثة أيام مغرما بالسيارة، بعد ذلك بدأ يريد اللعب باللعبة التي جاءت فيها السيارة، ولم تكن أكثر من علبة. لم يكن يعرف على الإطلاق أن السيارة أغلى منها، أو أعلى قيمة، أو أكثر تطورا من الناحية التكنولوجية. أحب العلبة لأنه رأى في التلفزيون شخصية الخنزير هاملتن يعيش في علبة، وأراد أن يقلد هذا في حياته.
ما كنا نحاوله في تلك الدراسة هو أن نوجه تركيز الناس إلى هذا، فعلى سبيل المثال، بدلا من مشاهدة أب للتلفزيون، يمكنه أن يلعب البيسبول مع ابنه، ويتراوح ما يمكن أن يفعله الناس، ولكن حينما توجد تذكرة، فإن ما نكتشفه- وهذه دراسات أجريت على 500 موظف في فورشن وعلى طلبة جامعيين- هو أنهم يتخذون قرارات بسيطة، ولك حتى أن تعتبرها تافهة، ولكنها تضيف فعليا إلى حياة أكثر سعادة في النهاية. هذه التذكرة البسيطة اليومية نوع من مراقبة الواقع، ووضع الأمور في سياق.
• في رأيك ما الذي يتعارض في الرسالة التي يتلقاها الناس بشأن ما يلزم نجاحهم في العمل مع هذه الذهنية؟ بعبارة أخرى، هل تعتقد أن الترقي في أي سلم مهني يقتضي عدم التفكير بمنطق الوفرة؟
ـ في كتابه «الدافع»، يتكلم دانيال بيرك عن أن ما درجنا على اعتباره دوافع للموظفين- في سياق ما يسميه بمنهج الجزرة والعصا- قد حلَّ بدلا منه الآن ما يسميه «الدافع 2.0» الذي يحاول الوصول إلى ما يثير في الناس بالفعل الحماس والشغف، جوجول من الشركات الشهيرة التي تحاول ممارسة هذا، و«هول فودس» أيضا.
أعتقد أننا نحمل الكثير من متاع طريقة الاقتصاد في العمل. في أحد كتبه يقيم سيمون ساينك الحجة على أن الاقتصاد والقواعد التي يدار بها قائمة على طريقة الجيش في إدارة شؤونه، وهي طريقة شديدة الهيراركية، لكنه يتكلم عن أنك إذا نظرت في واقع الأمر نظرة أعمق قليلا إلى أفضل قادة الجيش، لرأيت أنهم لا يميلون إلى هذا النهج، ومن ثم فإن هناك تبنيا مغلوطا لمجموعة من الأفكار القائمة على الطريقة التي كانت تدار بها الأمور في الماضي، ولكن في واقع الأمر، ما يظهر الآن بوصفه نهجا أكثر نجاحا في القيام بالعمل وفي تحقيق النجاح هو نهج قائم على الوفرة.
في الصورة الكبيرة، تبدو رسائل عالم الأعمال مختلطة بعض الشيء، ففي كليات الأعمال، أرى أن هناك دفعا هائلا باتجاه المسؤولية الاجتماعية للشركات، ولكن في الوقت نفسه، إذا نظرت إلى نوعية الناس الذين تدعوهم هذه الكليات لإلقاء الخطب، أو ما نركز عليه لتحسين أدائنا، ترى نوعية الأشياء غير الجوهرية. فنحن نوجه الدعوات لمن حققوا الملايين، ونفكر أكثر ما نفكر في الرواتب التي سوف يحصل عليها طلبتنا من دارسي إدارة الأعمال.
• ذكرت سابقا مدى سهولة تكيف الناس مع التغيرات الإيجابية في حياتهم، وأنا على علم بالأبحاث التي تبين أن الفائزين باليانصيب لا يصبحون بعد سنة من فوزهم أكثر سعادة حتى من الناس الذين تعرضوا لإصابات حديثة. وأجد لهذا صدى في نفسي: فلو كنت قلت لي وأنا في المدرسة الثانوية إنني سوف أكتب لمجلة، فربما كنت شعرت ببهجة طاغية. والآن أنا سعيد من أوجه كثيرة، وما زلت أشعر بكثير من المخاوف القديمة نفسها والقلق بشأن المستقبل. وأحسب أن كثيرين يشتركون معي في هذا، هل يمكن أن تتكلم عما يلزم المرء لإبعاد نفسه عن هذه الذهنية؟
– يمكنني القول: إن هذه بلوى أغلب الناس في العالم. هناك توقعات بأنك سوف تصبح سعيدا لو حققت هذا الشيء المعيّن. ثم يتضح أن هذا غير صحيح. وجزء كبير من ذلك يرجع إلى التكيف، ولكن جزءا كبيرا منه أيضا يتمثل في أنك ترى أمامك جبلا تريد أن ترتقيه. حتى إذا ارتقيته وجدت أن من ورائه جبالا أكثر عليك أن ترتقيها.
الأمر الذي ساعدني فعلا وأكثر من أي شيء آخر في هذا الصدد هو ما أسميه في الكتاب بـ «السعي بلا شغف نحو الشغف»، وهذا المفهوم يمكن تلخيصه في أنه ليس عليك أن تجعل سعادتك مهددة بإنجازك نتاجا معينا. والسبب الذي يضفي أهمية على عدم ربط السعادة بالنتاجات هو أن للنتاجات في ذاتها تأثيرا غامضا على سعادتك قد يكون إيجابيا أو سلبيا، صحيح أن هناك بعض النتاجات شديدة التطرف- كأن تصاب بمرض مستفحل أو يموت لك طفل- لكن دعنا نستبعد هذه، ونفكر في التالي، في انفصالك عن حبيبتك في طفولتك، أو انكسار ذراعك وقضائك شهرين في السرير. لعلك قلت حينما وقعت تلك الأشياء «يا إلهي، هذه نهاية العالم. لن نتعافى من هذا أبدا»، ثم يتبين أننا بارعون تماما في التعافي من هذه الأشياء، بل إن هذه الأحداث التي تصورناها شديدة السلبية كانت في الحقيقة أساسية في إنضاجنا وتعلمينا.
كل إنسان لديه اعتقاد ما بأن أحداثا جيدة أم سيئة هي التي سوف تقع، وما من دليل علمي على أن أيا من هذين الاعتقادين أدق من الآخر. لكنك لو رأيت أن الحياة طيبة لوجدت على ذلك أدلة كثيرة، ولو رأيت أنها خبيثة لرأيت على ذلك أدلة كثيرة. هذا أشبه بتأثير الأدوية غير الفعالة. في ضوء أن كل هذه الاعتقادات متساوية في صحتها، فلماذا لا تتبنى الاعتقاد الأنفع لك على مدار حياتك؟
• بات واضحا لي بعد قراءة كتابك والحديث معك أن الثقافة الأمريكية وربما الرأسمالية بصفة عامة لا تفعل الكثير تشجيعا لنا على إيثار نهج الوفرة على نهج الندرة. فهل هناك أي مجتمعات أو ثقافات حلت هذه المسألة، أم أن الأمر هو أن المجتمع يبث طول الوقت رسائل محددة، وعلى الأفراد أن تكون لهم برمجتهم المضادة؟
ـ قد يبدو في ظاهر الأمر أنني أقول إن الرأسمالية بصفة عامة ليست جيدة للغاية في التشجيع على نهج الوفرة، ولكنني لا أظن أن ذلك دقيق، لو أنك قسمت الرأسمالية إلى مكونين رئيسيين، أحدهما هو حرية الحركة للناس وللأفكار وللبضائع وحرية الاختيار والثاني هو توزيع الموارد بحسب قدرات الناس لا بحسب احتياجاتهم، لوجدت المكون الأول في الرأسمالية جميل في ما أرى، ولا يمكن لمثلي أن يتخلى عنه. ولو جاءت هذا الأيديولوجية في حزمة واحدة مع توزيع الموارد بحسب القدرات فإنني أقبل بهذه الحزمة، وليس الحزمة المؤلفة من تقييد حرية الناس والفكر والاختيار مع توزيع الموارد على الناس بحسب احتياجاتهم.
في النهاية، لا يمكنك أن ترغم الناس على تبني عقلية الوفرة. عليهم أن يختاروا لأنفسهم، من خلال استكشاف الذات والبحث فيها، والنظر إلى العلم.
theatlantic