وجه مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، رسالة الى اللبنانيين لمناسبة شهر رمضان المبارك قال فيها ان “كل البشرية مسؤولة عما يحفظ مصالحها ومصالح العالم الإنساني والطبيعي في الحياة والعيش والتصرف . إنما وكما سبق القول ، نحن المؤمنين مسؤولون بوجه خاص ، ومطلوب منا القيام بأداء الرسالة الحافظة لحياة الإنسان ، والضامنة للرشد الإنساني .”
واضاف دريان: “لا تزال القوى الكبرى في العالم تتصارع بشأن الجهة التي تسببت في هذا الوباء الفظيع ، الذي يكاد يغير الحياة على وجه الأرض . وقد عرف البشر من قبل أمراضا معدية وأوبئة كانوا يسمونها الطواعين ، أو الموت الأسود.
بيد أن المتغيرات الصاعقة، سواء في العالم الطبيعي ، أو العالم الإنساني ، التي صارت تحدث في أزمنة متقاربة ، فهناك شبه إجماع من جانب الخبراء ، على أنها من مواريث الإساءة إلى الطبيعة والإنسان ، من طريق الاختراقات المتكاثرة للنظام الكوني ، ولعوالم الإنسان والحيوان ، والطبيعة برا وبحرا وفضاءات . ولذلك،أرى أن رسالتنا نحن أهل الدين ، وعلى مشارف شهر رمضان ، وفي كل حين ، الدعوة إلى الرشد الإنساني ، قال تعالى:فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون.”
وتابع: “ثم كيف يكون حفظ النفس الإنسانية ممكنا ، ما دام حوالى ثلث بني البشر ، يعانون الجوع والقتل والتهجير، والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي . وليس هناك مثل أفضل على وحدة الإنسانية ، وجودا ومصائر من هذا الوباء الهائل ، وينبغي أن يكون الدرس لدى المؤمنين وغير المؤمنين، من ذوي الرشد، التضامن في التصدي لما يهدد حياة الإنسان والبيئات التي تحيط به ، ويعيش فيها ، وينبغي أن يظل العيش ممكنا فيما وراء حروب الأوبئة والأسلحة ، والتلوث البيئي والتلوث التكنولوجي.”
وفي الشأن اللبناني والوضع الاقتصادي قال دريان: “لسنا مسؤولين بالتأكيد عن حصول الوباء، ولا عن الأزمة الاقتصادية العالمية. لكننا مسؤولون عن الأزمات الاقتصادية والمالية، والنقدية والمعيشية التي يعانيها ملايين اللبنانيين .
ويقع القدر الأكبر من المسؤولية على عواتق الطبقة السياسية ، وكل الخبراء والمهتمين بإدارة الشأن العام .”
واضاف: “السياسات الاقتصادية والمالية ، سياسات طويلة الأمد . والكل يقول اليوم : إن الانهيارات كانت متوقعة وفي شتى المجالات . والكل يقول اليوم : إنه ما كانت هناك في السنوات الأخيرة محاولات جدية للإصلاح. والكل يقول اليوم : إن لبنان الرسمي ، تنكر للمصالح الوطنية الاستراتيجية التي تربطنا بالعرب والمجتمع الدولي.
والكل يقول اليوم : إن العملية الثلاثية الأطراف بين الإدارة السياسية ، والبنك المركزي ، والقطاع المصرفي ، كانت في مجملها عملية انتحارية للمواطن والوطن، والنظام السياسي ، والاقتصاد الحر. ولست أذهب إلى أن كل ما حصل بعد السابع عشر من تشرين الأول ، كان صوابا ، لكنه كان إنذارا وإن متأخرا بالانهيار الذي حدث ، وما تزال وقائعه جارية يوما بيوم.”
وشدد دريان على ان “كل الطبقة السياسية اعتبرت نفسها مستهدفة بالحراك الشعبي، وتعاونت وتضامنت إلا القليلين ، للتخلص منه ، بدلا من التفكير بالإصلاح ، والبدء به بقوة . وعلى أي حال ، فإن الأسوأ قد وقع . ولسنا ضد إعطاء فرصة لهذه الحكومة ، التي أعطت لنفسها سمات الكفاءة والاختصاص . إنما بصراحة ، ما حصل شيء إيجابي ملموس حتى الآن ، لا لجهة وضع معالم كبرى للإصلاح ، والبدء به بالفعل.”
وقال: “لقد سترتكم كورونا ، إنما ما العمل أمام انهيار العملة ، ودفع مرتبات الموظفين، والحيلولة من دون جوع أربعين في المئة من اللبنانيين الفقراء في الأصل ، الذين أضيف على همومهم فقد الوظائف والبطالة والغلاء ، والخوف من المجهول المستقبلي ، الذي صار حاضرا!”
وتابع مفتي الجمهورية في رسالته: “لقد طفح الكيل يا ساسة لبنان ، من المأساة اليومية التي يعيشها المواطن، من جوع وفقر وإذلال للناس على أبواب المصارف . نطالب الدولة أن ترأف بمواطنيها قبل الانفجار الذي يهدد الجميع ، فلا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بالمحاسبة واستعادة الأموال المنهوبة ، والضرب بيد من حديد ، لإعادة تنظيم عمل مؤسسات الدولة ، لتعود الثقة المفقودة من الداخل والخارج . الأوطان لا تبنى بالكلام ، بل بالعمل الجاد الصادق، والظاهر للعيان . شبعنا وعودا وتطمينات ، نريد أن نرى بأم أعيننا الإصلاحات الحاسمة ، ليبقى لبنان على خارطة العالم ، وإلا فإن الانهيار الذي نحن فيه الآن ، سيتفاقم ، ويضيع الوطن من بين أيدي أبنائه.”
واضاف: “لبنان يستحق التضحية من الجميع ، وهذا هو عهدنا برجاله ونسائه. لن نستسلم، ولن نرضخ للأمر الواقع ، من أزمة اقتصادية مخيفة ، قد تودي بنا إلى الإفلاس ، علينا أن نكون أقوياء عقلاء حكماء ، موحدين لا غوغائيين. لقد مر على لبنان الكثير من المصاعب السياسية والاقتصادية ، والاجتماعية والمعيشية ، وآخرها أزمة كورونا الصحية ، التي سنجتازها بوحدتنا وتعاوننا وتضامننا ، لا نريد العودة إلى الماضي ، ونبش القبور ، ولا التجني على الآخرين لمآرب سياسية ، فلنطو الصفحة ، ولنفتح صفحة جديدة ، تحت شعار: لبنان يستحق التضحية والعمل معا من أجل الخروج مما نحن فيه من تفتت وانهيار .”
كما دعا دريان “الساسة إلى الإقلاع عن الكيدية السياسية ، وإطلاق الشعارات الاستفزازية التي يمارسها البعض لأهداف خاصة ، لا تخدم الوطن ، بل تضر به وبأبنائه ، فكلنا في الخسارة واحد، وفي الربح واحد أيضا.”
وناشد المجلس النيابي “أن ينظر إلى السجناء بعين الرحمة والعدل ، فيما يتعلق بقانون العفو ، بأن لا يكون خاصا، بل شاملا ولمرة واحدة ، وعفا الله عما سلف ، ولتكن هذه المبادرة باكورة خير لكل السجناء وأهليهم ، الذين يعانون الأمرين لتأمين حاجاتهم ، وننبه إلى أن لا تكون هذه الخطوة ناقصة ، كي لا تنعكس سلبا على باقي السجناء وأهليهم .”
وتابع دريان: “أيها المسلمون، أيها اللبنانيون :
إن من حقكم وضع المسؤوليات على عاتق الحكومة والعهد . إنما ماذا نفعل والتقصير حاصل، وما عاد الانتظار ممكنا ؟ نحن اللبنانيين في القطاعات الدينية والمدنية ، وأوساط الشباب ، والنقابات والجمعيات الخيرية ، والمتطوعين الناشطين ؛ نحن جميعا نستطيع أن نصنع فرقا ، وفي شهر رمضان بالذات . لقد نشطت الجهات الطبية – وهي تقتضي منا الشكر – وكذلك المئات من المتطوعين العاملين في المجال الطبي ، والاستشفائي ، والآخرين في المجال الاجتماعي والإنساني ، كل هؤلاء الفتيات والفتيان ، يحمدون على همتهم ونبلهم ، واندفاعهم وتعريض أنفسهم للأخطار ، لكن الذي ثبت لنا أن أفضل المؤسسات مستشفيات كانت أو مدارس أو جامعات؛ تعاني قصورا شديدا ، فكيف بالجهات الخيرية والاجتماعية ، التي ازدادت الأعباء عليها والمسؤوليات والاحتياجات ، وتراجعت الموارد لتراجع قدرات المحسنين على الإسهام ، وتراجع مقادير الموارد الآتية من جهات الدعم العربية أو الدولية ؟”.
وقال: “يعز علينا أن نستقبل شهر رمضان المبارك ، والمساجد مغلقة أبوابها ، بسبب تفشي جائحة كورونا ، ونقول للمسلمين : لا تقنطوا ، فإن رحمة الله واسعة ، وصلاتنا ستبقى قائمة في بيوتنا إلى أن يرفع الله عنا هذا الوباء.
وسنبقى على تواصل مع المسؤولين في الدولة ، ومع الأطباء ، لجلاء الصورة ، وإعلان انتهاء الحجر الصحي ، لنزف للمسلمين بشرى العودة إلى مساجدنا في وقت قريب بإذن الله.”