إلى ملحم عماد … أبي
فارقتنا بالأمس تاركاً في قلوبنا ومشاعرنا، ألماً يفوق الوصف، وتعجز عن تجسيده الريشةُ والخطوط والألوان، تلك التي ما عجِزتْ أناملك يوماً عن تصويرها بدفق إحساسٍ لم ينضب.
أصدَقُ الكلامِ ما ينبعُ من القلبِ خصوصاً إذا كان موجّهاً إلى أقربِ الناسِ ، فكيف الحالُ إذا كان هذا الأقربُ مبدعاً، خلَّاقاً ، وصاحبَ شخصيةٍ نادرةٍ تجمعُ في طيَّاتها المحبةَ والطيبةَ والصدقَ والعطاءَ والإخلاصَ وخفةَ الظلِّ، وكلَّ الصفاتِ الحسنةِ التي تنطبق على رسامِ الكاريكاتور الذي أحبه جميع من عرفه، ويكفيني فخراً أني من صلبك، ولا أجدُ حَرَجاً في أن أُعدِّدَ صفاتِك على الملأِ حتى انقطاعِ النَفَس.
كيف لا وأنت الوالد الرفيق الصديق الذي رافقتُ ريشتَهُ منذ نعومةِ أظافري، ونشأتُ وترعرعتُ في أروقةِ الصحافةِ بفضلِهْ، وقررتُ أن أسلُكَ دربَهُ في عالمِ الورقِ والأقلامْ، لكنني ” لم أملُكِ الرسمَ بالريشةِ والألوانِ، فرُحتُ أرسمُ بالحروفِ والكلماتْ.”…
ليس سهلاً أن أكونَ وإخوتي ربيع ووليد ووسام ورندى ورانية أبناءَ رسامٍ مبدعٍ، ريشتُهُ مطواعةٌ – كما يصفك زملاؤك- وصاحبِ رؤيةٍ خاصةٍ وعميقةٍ في الحياةِ التي غرسَت ووالدتي في نفوسِنا أجملَ وأهمَّ أُسُسِها من تربيةٍ صالحةٍ، وأخلاقٍ عاليةٍ، وعزّةِ نفسٍ، وتعالٍ على صغائرِ الأمورِ، وغيرِ ذلك مما يدعونا إلى الاعتزاز.
عذراً يا أبي إن كان في سيرِ الحروفِ لديَّ بعضُ ارتباكْ، فالحزن الذي يعتريني لرحيلك أكبر من أن يحتمل.
لست أدري لماذا تحصل أمور نعجز عن فهم القصد منها أحياناً، فرحيلك عشية إصدار كتابك الذي كنت أسابق الوقت ليبصر النور لأسلمك إياه يداً بيد، كان له في نفسي وقع الصدمة، لكنني أعزي نفسي لأنك كنت الى جانبي خلال مرحلة التحضير له، وشاركتني في انتقاء معظم الصور التي أدرجتها فيه، كما كنت على اطلاع دائم على كل خطوة قمت بها لجمع ما استطعت جمعه من أرشيفك الذي لم تهتم يوماً بجمعِهِ.
وكانت أول نسخة منه لتأخذها معك، على أن يقدرني الله لأقيم حفل توقيع للكتاب في الوقت المناسب، والمدهش أن كتابك مختلف عن كل الكتب لأن توقيعك موجود على كل صفحة منه في أسفل كل رسمة خطتها يداك بحبر لن يجف وريشة لن تموت، وستبقى هذه الرسومات وكل رسوماتك تاجاً على رؤوسنا أنا وأخوتي ما حيينا.
لطالما تضرعت الى الله طالبة منه طوال مدة مرضك أن لا ترحل حين أكون بعيدة عنك، والحمدلله تحقق ما طلبته، وكنت أول من ودعك، وقبلت يديك وجبينك ووجهك وأخبرتك كم أحبك، علماً أنك تعرف ذلك وتعرف أيضاً أنك زرعت في قلبي منذ الطفولة حباً لا يوصف وتقديراً كان يكبر أكثر وأكثر في كل يوم وساعة ولحظة عشتها معك.
قد أكتبُ عشراتِ الصفحاتِ ولا أكتفي من التحدُّثِ عن سعادتي بأنني وُلدتُ من أبٍ علَّمني حبَّ الحياةِ والصبرْ، والأهمُّ من ذلك كلِّهِ أنه علَّمني كيف أحلمُ وأضعُ أهدافي نصبَ عينيّْ، ولا أنكرُ فضلَ أمي التي كانت مثالَ الأمِّ الصالحةِ وأفنَت عمرَها من أجلِ عائلتها.
لكما من قلبِ القلبِ باقاتُ عرفانٍ وتقديرٍ وحبٍ لا حدودَ له.
ندى عماد خليل.