فيما تبحث عن اسم محمود الجندي في “غوغل”، ستظهر لك، بين الصور، صورة من مسرحية “البرنسيسة” في عرض تلفزيوني، مكتوب في الركن الخاص باسم الفضائية التي تذيعها: “روتانا زمان”.
بديهي أن تُعرض المسرحية في الفضائية الخاصة بالأعمال القديمة. مع ذلك ستنتبه إلى أن سنوات عمرك أصبح فيها ما يقال عنه بارتياح، وبصيغة ليست مجازية: “زمان”. في الصورة، يجلس الجندي في مشهد شهير، بملابس داخلية مُمزقة، عرفها رجال الطبقة ما دون المتوسطة في تلك الأيام.
ملابس كانت تصلح لأن يجلس الرجل بها بين أفراد أسرته طوال اليوم. وكان يغني، بصوت جميل مُميز ومعروف، من موّال “حسن ونعيمة” وهو يضحك ونضحك رغم حُزن الكلمات. موّال حفظته غالبيتنا: “لو كنت أعرف إن الوعد متّداري.. ما كنت أطلع ولا أخرج أصل من داري.. يا ريت ما حبيت ولا كان العذاب جالي.. وداري على بلوتك يا اللي ابتليت داري”.
في فترة، ونحن على مشارف الشباب، اختفى محمود الجندي عن الأنظار. قالوا إنه اعتزل الفن بعدما احترق بيته وراحت أسرته ضحية الحريق. وسمعنا أقاويل عن كيف أنه اعتبر ما حدث عقابًا إلهيًا على عدم الإيمان والاستجابة لأسئلة الوجود والخلق، فضلًا عن الاستغراق في ملذات الحياة.
ظهر بعد ذلك في لقاءات تلفزيونية يلفّ عمامة حول رأسه، ويتحدث بتديّن وعينين دامعتين باستمرار، قبل أن يعود إلى التمثيل وقد لاءمت مرحلته العمرية تلك الأدوار الرصينة والمحافظة، غير أنه كان شخصًا غير الذي عرفناه صغارًا. صار ممثلًا تراجيديًا، يبرع في أدوار الجدّ والشرّ، أهّلته لها موهبة وخبرة سنوات.
لكن اللافت أن الممثل الكبير الذي عاد، لم يكن تطورًا طبيعيًا لمن عرفناه شابًا، كان كأنه فنان آخر بدأ التمثيل كبيراً. ممثل لن يشير اسمه في “تتر” عمل ما، إلى شيء من الكوميديا أو حتى الجدية المشحونة بملامح شقيّة وخفة روح ميّزته في الصغر.
هو بالنسبة إلى طفولتنا ومراهقتنا: نور الدين في “إنها حقاً عائلة محترمة”، عمرو في “رحلة السيد أبو العلا البشري”، هاني في “البرنسيسة”، مصطفى الشوان في “دموع في عيون وقحة”، سلامة الطفشان في “شمس الزناتي”، علي الزهار في “اللعب مع الكبار”، شوقي في “الشهد والدموع”، عبد الرحمن في “حكايات الغريب”، ضيا في “التوت والنبوت”، ومراد في “علشان خاطر عيونك”.
وأنت، إن استوقفك موت أحدهم وشغلك ببعض الأسئلة، ربما تتساءل، في حالة محمود الجندي، إن كانت تركيبة ما تحوّل إليه بعد عودته للتمثيل، هي من صُنع مخرجين حصروه في أدوار تلائم حالته ومرحلته العمرية، أم أن الأمر يأتي من منطقة أكثر تعقيدًا، تتعلق بأن الواحد منّا قد يصبح شخصًا مختلفًا كُليًّا من عُمق داخله الإنساني بسبب حادث كبير في حياته، ولو كان فنانًا.
أميل إلى التفسير الثاني، وإن كان فيه ما يدل على شيء، فستكون دلالته الوحيدة أن الموهبة لا تفنى وإن تغيّرت سمات صاحبها تغييرًا كاملًا.
مات محمود الجندي فجر اليوم الخميس، عن 74 عاماً. مُمثل من رفقاء العمر، يستدعي رحيله مشاهد من قلب أيامك وماضيك الخاص، وأحد الذين لهم قطعة، وإن كانت صغيرة، من ذاكرتك الشخصية. وجه مألوف في عدد من الأعمال التي لطالما اجتمعت الأُسرة للفُرجة عليها، في سهرات ما قبل أطباق الدش والإنترنت وعصر الاتصالات، حينما كانت شاشة التلفزيون تنتهي عروضها عند منتصف الليل على الأكثر، ويضطر الجميع للنوم، وحينما كان على من يريد السهر أن يبحث عن شيء آخر غير الفُرجة، بينما أجهزة الفيديو، التي تعمل بالشرائط في أي من أوقات اليوم، هي من نصيب المحظوظين.
ولد محمود الجندي في شباط/فبراير 1945، وتخرج في المعهد العالي للسينما، قبل أن يلتحق، في خدمته العسكرية، بسلاح الطيران لمدة سبع سنوات شارك خلالها في حرب أكتوبر. ثم عاد لاستكمال حياته الفنية ليقدم عشرات الأفلام والمسلسلات والمسرحيات التي يعتبر الكثير منها من أشهر الأعمال السينمائية والدرامية والمسرحية في مصر والعالم العربي.
اشتهر بصوت جميل، وغناء المواويل وعدد من الأغاني في المسلسلات والمسرحيات التي شارك فيها، كما قدم ألبومًا غنائيًا في العام 1990 بعنوان “فنان فقير”، ورحل فجر اليوم، الخميس، في أحد المستشفيات بعد أزمة صحية قصيرة.
المصدر: المدن